طوف على صنعاء وعرّج عدن ياطير
حضرموت البعد الثالث(1)
ظلت حضرموت على بعد المسافات – 600ميل تقريبا – من عواصم اليمن المعاصرة صنعاء وعدن،على صلة وثيقة بما يدور هناك ومتفاعلة معه سلبا وإيجابا، في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ناهيك عن الاتصال الوجداني المتجاوز للحدود المصطنعة والأسوار الوهمية التي بناها المستعمر في عدن والائمة في صنعاء.
يقول مؤرخ حضرموت الاشهر محمد عبدالقادر بامطرف أن( يمنات) أطلقت في القديم على ساحل الشحر إلى تخوم عدن، وهذه الأصقاع الواسعة، كانت تٌضَم إلى مناطق اليمن وجباله الداخلية وتهائمه، وأحيانا هي التي تتمدد شمالا لتضُم أجزاء من هذه المناطق إليها بحسب قوة الدولة هنا أو هناك.
فناحية حضرموت والمهرة إلى ظفار،كانت ذات شأن عظيم في التجارة والعلاقات الدولية، لعاملين أساسيين: موقعها على طريق الحرير، وكمصدر رئيس لتجارة اللبان.
فطارت سمعتها التجارية في الآفاق، واكتسبت خبرة ومراساَ في الطرق البحرية راكمتها شبكة واسعة من ربابنة السفن .
هذه الميزات الجيوسياسية ناضل أبناء المنطقة للحفاظ عليها ومنع فقدانها- حتى لا تُهجر سواحلهم وتكسد تجارتهم –في منافستهم لمرافئ شرق آسيا والقرن الإفريقي ومستعمرة عدن خاصة بعد افتتاح قناة السويس.
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه عدن تتقدم بسرعة لتكون مركزا عالميا للتجارة ومنصة للتنوير في المنطقة-الجزيرة والخليج- كانت صنعاء تغرق في عزلتها منكفئة على نفسها منسحبة من أي تأثير ذا شأن في المشهد الإقليمي.
حضرموت وجيرانها في الشرق وإن كانت تمتلك مقومات معتبرة بمعايير الدولة القُطرية الحديثة- كثير من الأقطار المجاورة أقل مساحة وسكانا وموارد وموقع جيوسياسي-إلا انها ظلت متشبثة بروابط الانتماء لكيان أكبر وناحية أوسع في جنوب الجزيرة العربية.
فالدويلات المتصارعة في حضرموت مطلع القرن العشرين لم تجد نفسها -وإن حاولت الاستقلال- إلا جزء من هذا الجوار المتصل جغرافيا والحاضر وجدانيا والمشترك تاريخا والمشتبك عرقا ولغة ودينا.
كيف لا يشدهم سحر القطبين، فصنعاء بمكانتها المركزية وبالكثافة السكانية الأهم في اليمن وتاريخها واسمها الطاغي بين حواضر المنطقة علما وأدبا وفنا لم تزل مصدر إلهام ومهوى افئدة وجذوة ثورات لم تنطفئ،
وعدن التي أضحت درة التاج البريطاني غدت مركز جذب للاستثمار وقبلة رجال المال والتجارة من كل الأصقاع، والحضارم أصحاب الباع الطويل في هذه المهنة في طليعة المتطلعين.
جميع نواحي اليمن يصدق على علاقاتها البينية ما يصدق عن علاقة حضرموت بعدن وصنعاء خلال مائة سنة مضت على الأقل، وإن كان لناحية حضرموت-وشرق اليمن بشكل أعم- من تميز فيعود غالبا لاستعداد الساحل أكثر من الجبال والمناطق الداخلية للاندماج والاتصال بحضارات مشاطئة واستقبال الهجرات- خلال القرنين الماضيين- في الاتجاهين.
فلا يمكن لأحد أن يغفل تأثير المهاجرين الحضارم في شرق آسيا وإفريقيا والحجاز وتأثرهم ايضاً.
وخلال الثلث الأول من القرن العشرين ومطلعه بشكل خاص لم تكن الحدود السياسية التي عرفتها المنطقة لاحقا قد اخذت بعدها التقسيمي، ولم تٌرسم بعد في نفوس سكان المنطقة الذين كانوا يتنقلون بين كل هذه النواحي بحرية كاملة.
حتى أن التشريعات التي سنتها الإدارة البريطانية بشأن الجنسية في عدن لقيت استنكارا كبيرا ومقاومة شديدة لمحاولة حرمان المواطنين من خارج عدن حق المواطنة واعتبارهم أجانب عنها…يتبع
د.متعب بازياد