الثلاثاء , يونيو 10 2025

أن تحيا لا أن تعيش

 

أن تحيا لا أن تعيش

يخيّل لكثير من الناس أن أعظم ما يُبتلى به الإنسان هو الفقر أو المرض أو الظلم، لكنّ الحقيقة أن البلاء الأعظم هو أن يعيش المرء بلا معنى. فما الفقر إن صاحبه هدف إلا صبر نبيل، وما الألمُ إن خُتم برسالة إلا تهذيب للنفس، أما أن تمضي بك الأيام على صورة مكررة لا تسأل فيها لماذا؟ ولا تتوقف لتتأمل كيف؟ فذلك هو الموت الحقيقي في لباس الحياة. وهذا الموت لا يجيء بغتة، بل يتسلل ببطء، كما يتسرب الملل في القلب المتخم بالعادات. يبدأ بخمود الحماسة كما تخمد النار تحت الرماد، ثم غياب الفضول، ثم تلاشي الدهشة، حتى تصير الحياة كلها أشبه بنسخة باهتة من الأمس، تتكرر لا لأنها حيوية، بل لأنها خالية من المغزى.

وهنا تنشأ المعضلة: هل الحياة اليومية رتيبة لأنها مكررة؟ أم لأنها بلا معنى؟

الناس تظن أن التكرار هو القاتل، لكن التكرار بحد ذاته لا يميت، والدليل أن أجمل ما في الحياة يتكرر: الصلاة، الحب، لحظات التأمل، قراءة كتابك المفضل. إنما الفارق أن في تلك التكرارات روحا، وفي روتيننا المعتاد خواء.

نحن لا نُرهق من العمل، بل من العمل بلا هدف. لا نضيق بالصباحات، بل حين نجهل لماذا نستيقظ. فالركض ليس المشكلة، بل أن تركض دون أن تدري إلى أين. وما من إنسان يشعر بثقل الحياة إلا حين تغيب عنها الغاية وتبهت فيها الفكرة.

الذين يعيشون بلا معنى لا يكونون دائما تعساء، لكنهم بالضرورة فارغون. يبتسمون دون حماسة، ويؤدون مهامهم بلا حرارة. يشبهون بيتا أنيقا، مرتب الأثاث لكنه خال من ساكنيه. وليس أشد ضياعا من حياة مكتملة الشكل، مفقودة الجوهر. فكيف نعيد للعيش نبضه؟

بأن نُرجع لكل فعل قيمته، ولكل عادة نية، ولكل جهد غاية.

الطبيب الذي يرى في مهنته رسالة، لا تجارة، ينهض بشغف. والمعلم الذي يؤمن أن كلماته تُشكّل الوعي، لا تُملأ بها دفاتر، لا يشيخ عقله ولو بلغ الستين.

وحتى ربّ الأسرة، إن شعر أن في رعايته بناء جيل، لا مجرّد توفير لقمة، صار فعله عبادة لا عبئا.

المعنى لا يُنتظر من الخارج، بل يُستخرج من الداخل. يُولد حين نسأل أنفسنا: لماذا أفعل ما أفعل؟

وينمو حين نصمّم لحياتنا هدفا، ولو كان بسيطا.

ويترسّخ حين لا نسمح للزمن أن يسرق وعينا في دوامة العادة.

فالذي يعيش بالمعنى لا يَهرم وإن شاخ، ولا يَفرغ وإن كثرت عليه الأعباء.

وحين نُعيد للروتين روحه، نصبح نحن أصحاب الحياة، لا عبيد إيقاعها.

وحينها فقط… نحيا، لا نُدفن ونحن أحياء.

فيصل الكثيري

عن ادارة التحرير

شاهد أيضاً

“كفى سلبية… آن الأوان أن نصنع التغيير بأنفسنا”

      “كفى سلبية… آن الأوان أن نصنع التغيير بأنفسنا”     يمرّ مجتمعنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *