بين تأييد الوادي وتحفّظ الساحل موقف حضرموت من ابن سعود
في عام 1936 زار عبدالله فيلبي وادي حضرموت قادمًا من نجران بصفته كما اعتقد كثير من السكان مبعوثًا للملك عبدالعزيز آل سعود.
لم تكن زيارته عادية بل كشفت خريطة سياسية واجتماعية عميقة داخل حضرموت وأظهرت انقسامًا واضحًا بين الوادي والساحل حول العلاقة مع المملكة.
ففي وادي حضرموت كان الاستقبال حافلًا والترحيب بالزائر لا لبس فيه.
وكان الموقف الأبرز من السلطان علي بن منصور الكثيري الذي لم يكتفِ بلقاء فيلبي بل بعث برسالة مباشرة إلى الملك عبدالعزيز رغم أن اتفاقيته مع القعيطي وبريطانيا عام 1918 تمنعه من ذلك.
وقد جاء في نص الرسالة التي خطّها السلطان الكثيري من سيئون:
“الحمد لله، وهو المستعان وعليه التكلان.
من سيئون في غرة شهر رجب سنة 1355
حضرة صاحب العظمة جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، أدام الله عزه.
وبعد، فإني أُهدي لجنابكم العالي سلامًا عاطرًا وتحية مباركة عربية وأتمنى لكم صحة جيدة وسعادة وهناء وأشعركم بأن الشيخ المحترم عبدالله فيلبي قد وصل إلينا من الدرب الذي نتمنى تعبيده بمساعدتكم وقد امتزج بنا وعَلِمَ بعض أحوال قطرنا وهو خابركم شفاهياً.
وأسأل الله أن يأخذ بيدكم إلى ما فيه خير للجزيرة وأهلها وأن يجمعنا وإياكم على خير.
وفي الختام تقبّلوا فائق الاحترام.”
هذه الرسالة لم تكن مجرد مجاملة بروتوكولية بل تعكس موقفًا رسميًا منفتحًا من أعلى سلطة في وادي حضرموت يطلب فيه صراحة مدّ جسور العلاقة مع المملكة العربية السعودية ويؤيد دعمها في مشروع استراتيجي وهو تعبيد الطريق الذي يربط حضرموت بالحرمين الشريفين.
هذا الطريق لم يكن مجرد ممر للمسافرين بل كان حلمًا يراود الناس في تريم وسيئون والمناطق المجاورة ووجد صدى واسعًا بينهم لأنه يمثل لهم مخرجًا عمليًا من مشقّات السفر عبر البحر وتحررًا من جبايات الموانئ وتعقيداتها.
المشروع حظي حتى بتأييد من بعض رموز الطبقة الدينية مثل السيد محمد بن علي بن الشيخ أبي بكر الذي عبّر بصراحة عن رغبته في أن يرى ابن سعود حاكمًا مطلقًا على حضرموت وهو ما يوضح أن هذا التوجّه لم يكن فقط سياسيًا بل كان مدعومًا بخطاب ديني واجتماعي يرى في المملكة نموذجًا للأمن والاستقرار.
وقد كان من اللافت أن قبائل الوادي والصحراء وعلى رأسها نهد والصيعر أبدت ترحيبًا واضحًا بفكرة الطريق البري.
ففي كتاب بنات سبأ أورد فيلبي أن بعض وجهاء نهد طلبوا منه أن تشملهم التسهيلات الممنوحة لقبائل همام من إعفاءات ورسوم وتيسير للحج معبّرين عن ثقتهم في الدور السعودي وتطلعهم لأن يكونوا ضمن امتداد آمن إلى الحرمين الشريفين.
الموقف نفسه تكرر لدى قبيلة الصيعر التي تقع أراضيها بين نجران وحضرموت حيث عبّر بعض مشايخها عن رغبتهم بأن تكون ديارهم جزءًا من طريق الحج الجديد لما فيه من تقارب ديني ومصلحة قبلية واقتصادية وطلبوا من فيلبي إيصال هذه الرغبة إلى الملك عبدالعزيز.
هذا الحماس الجماعي من سكان البادية يدل على مدى تعويل هذه المكونات على مشروع الطريق ليس فقط كمسار للحج بل كبوابة للخروج من عزلتهم وربطهم بمركز القرار الديني والسياسي في الجزيرة.
على الجانب الآخر وفي الساحل وتحديدًا المكلا كان الموقف مغايرًا تمامًا. لم يُستقبل فيلبي بنفس الروح بل قوبل بالريبة من وجهاء المدينة وموظفي السلطنة والقضاة واعتُبر مشروع الطريق تهديدًا مباشرًا لمصالح الميناء الذي كان يُشكل ركيزة اقتصادية للساحل وللسلطنة القعيطية.
دار نقاش حاد في مجلس السيد سالم المحضار حول آثار هذا الطريق وتخوّف البعض من أن يؤدي إلى تراجع النشاط البحري لا سيما في مجال نقل الحجاج حيث عبّر بعض الحضور بصراحة عن رفضهم استخدام الطريق البري حتى لو كان أكثر سهولة وأقل تكلفة في موقف يُظهر أن التحفظ لم يكن مرتبطًا فقط بالجانب الاقتصادي بل كان كذلك محمّلًا باعتبارات سياسية وأبعاد اخرى.
وفي ظل هذا التوتر كان السلطان القعيطي صالح بن غالب خارج حضرموت لكنه ما إن علم بزيارة فيلبي حتى بعث برسالة إلى السلطات البريطانية في عدن يوضح فيها موقفه بجلاء.
جاء في تقرير المخابرات البريطانية المؤرخ 22 أكتوبر 1936 أن فخامة سلطان الشحر والمكلا أفاد بأن المستر فيلبي ينشر دعاية لصالح الحكومة السعودية وأنه يزعم أن رجال القبائل ما وراء البر دخلوا في اتفاقيات مع المملكة. وأكد السلطان أنه لا تربطه أي علاقة بالحكومة السعودية ولا يرغب في إنشائها كما أنه لا يرحب ببعثات مسلحة تدخل حضرموت دون إذن مسبق من الحكومة البريطانية ومنه شخصيًا.
كان ذلك تعبيرًا واضحًا عن موقف السلطنة القعيطية التي ظلت ملتزمة باتفاقها مع بريطانيا وتخشى من أي تغيير مفاجئ يعيد صياغة موازين القوى في حضرموت أو يُضعف مركزها في الساحل. الموقف الحذر لم يكن ناتجًا عن قطيعة مع فكرة الأمن أو التنمية بل عن خشية من أن يُعيد أي تقارب مع السعودية رسم خارطة السيطرة في المنطقة وربما يفتح الباب أمام خصوم داخليين أو خارجيين كانوا ينتظرون مثل هذا التغيير.
واليوم بعد ما يقارب تسعين عامًا من زيارة فيلبي لا يبدو المشهد الحضرمي قد تجاوز تلك الثنائية العالقة.
فما زالت ملامح الانقسام بين الوادي والساحل حاضرة وإن تغيّرت الأدوات واللاعبون.
في وادي حضرموت هناك من يرى أن التقارب مع المملكة العربية السعودية هو الخيار الطبيعي والامتداد الروحي والجغرافي بل والضامن للأمن في ظل التجاذبات الإقليمية.
وفي المقابل لا تزال بعض قوى الساحل تتعامل مع هذا التقارب بتحفظ واضح وتزن مواقفها بناء على تركيبات اجتماعية واقتصادية قديمة تخشى معها أن يفقدها ذلك النفوذ التقليدي الذي احتفظت به في ظل ترتيبات محلية مركبة ما تزال قائمة إلى اليوم.
ما أشبه اليوم بالأمس وكما انقسم الحضارم في ثلاثينات القرن الماضي حول “طريق الحج” ينقسمون اليوم حول “طريق المستقبل” وحتى يتم تجاوز رواسب السلطنتين والتعامل مع حضرموت بوصفها كيانًا واحدًا لا ساحتين متباعدتين في الفكر والمصلحة ستظل الأحلام الكبرى لهذا الإقليم معلقة ويتحكم بها الداخل المنقسم قبل أن يتدخل فيها الخارج.
ماجد بن طالب الكثيري

صحيفة صوت حضرموت صوت حضرموت الغائب والمغيب عنك