الرد على المناظرة الشهيرة في مجلس السفّاح يا يماني مالك ورجال مضر ؟
اشتهرت في السنوات الأخيرة مناظرة عن المفاخرة بين مضر وهي القبيلة الأكبر من قبائل معد بن عدنان وبين قبائل قحطان أو اليمن ومن أشهر من كان له دور في شهرة هذي المناظرة الشيخ المغربي سعيد الكملي ثم بعد ذلك تتابع مشاهير في وسائل التواصل الاجتماعي في نشرها وقد ذكرها البيهقي في المحاسن والمساوىء وذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق وهي كالتالي :
كان أبو العباس يعجبه السمر ومنازعة الرجال، فحضره ذات ليلة في سمره إِبْرَاهِيم بْن مخرمة الكندي، وناس من بْني الحارث بْن كعب، وهم أخواله، وخالد بْن صفوان بْن إِبْرَاهِيم التميمي، فخاضوا في الحديث، وتذاكروا مضر واليمن، فقال إِبْرَاهِيم: يا أمير المؤمنين، إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا، وكانت لهم القرى، ولم يزالوا ملوكا أربابا، ورثوا ذلك كابرا عن كابر، أولا عن آخر، منهم النعمانيات، والمنذريات، والقابوسيات، والتبابعة، ومنهم من حمت لحمه الدبر، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومنهم الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا، وليس شيء له خطر إلا وإليهم ينسب من فرس رابع، أو سيف قاطع، أو درع حصينة، أو حلة مصونة، أو درة مكنونة، إن سئلوا أعطوا، وإن سيموا أبوا، وإن نزل بهم ضيف قروا، لا يبلغهم مكاثر، ولا ينالهم مفاخر، هم العرب العاربة وغيرهم المتعربة. قال أبو العباس: ما أظن التميمي يرضى بقولك، ثم قال: ما تقول يا خالد؟ قال: إن أذنت لي في الكلام وأمنتني من الموجدة تكلمت، قال: قد أذنت لك فتكلم ولا تهب أحدا، فقال: أخطأ يا أمير المؤمنين المتقحم بغير علم، ونطق بغير صواب، فكيف يكون ما قال، والقوم ليست لهم ألسن فصيحة، ولا لغة صحيحة، ولا حجة نزل بها كتاب، ولا جاءت بها سنة، وهم منا عَلَى منزلتين: إن جاروا عن قصدنا أكلوا، وإن جازوا حكمنا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات، والمنذريات، وغير ذلك مما سنأتي عليه، ونفخر عليهم بخير الأنام، وأكرم الكرام مُحَمَّد عليه السلام، ولله علينا المنّة وعليهم، لقد كانوا أتباعه، فَبِه عزّوا، وله أكرموا، فمنّا النبي المصطفى، ومنّا الخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور، والمشعر، وزمزم، والمقام، والمنبر، والركن، والحطيم، والمشاعر، والحجابة، والبطحاء مع ما لا يخفى من المآثر، ولا يدرك من المفاخر، وليس يعدل بْنا عادل، ولا يبلغ فضلنا قول قائل، ومنا الصدّيق، والفاروق، والرضيّ، وأسد الله سيد الشهداء، وذو الجناحين، وسيف الله، وبْنا عرفوا الدين، وأتاهم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه، ومن عادانا اصطلمناه. ثم التفت، فقال: أعالم أنت بلغة قومك؟ قال: نعم، قال: فما اسم العين؟ قال الحجمة، قال: فما اسم السن؟ قال: الميدن، قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنارة، قال: فما اسم الأصابع؟ قال: الشناتر، قال: فما اسم اللحية؟ قال: الزب، قال: فما اسم الذئب؟ قال الكتع، قال: فقال له: أفمؤمن أنت بكتاب الله؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سورة يوسف آية 2، وقال:{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }سورة الشعراء آية 195، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ }سورة إِبْرَاهِيم آية 4. فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل، ألم تر أن الله عز وجل، قال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} سورة المائدة آية 45، ولم يقل: الحجمة بالحجمة، وقال: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} سورة المائدة آية 45، ولم يقل: الميدن بالمدين، وقال: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ }سورة المائدة آية 45، ولم يقل: الصنارة بالصنارة، وقال:{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} سورة البقرة آية 19، ولم يقل شناترهم في صناراتهم، وقال: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي }سورة طه آية 94، ولم يقل لا تأخذ بزبي، وقال: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} سورة يوسف آية 17، ولم يقل أكله الكتع. ثم قال: أسألك عن أربع، إن أنت أقررت بهن قهرت، وإن جحدتهن كفرت، قال: وما هن؟ قال: الرسول، منّا أو منكم؟ قال: منكم، قال: فالقرآن، نزل علينا أو عليكم؟ قال: عليكم، قال: فالبيت الحرام، لنا أو لكم؟ قال: لكم، قال: فالخلافة، فينا أو فيكم؟ قال: فيكم، قال خالد: فما كان بعد هذه الأربع فلكم فضحك الخليفة السفاح وقال لأبن مخرمة الكندي *يا يماني مالك ورجال مضر*
إذا رجعنا للمناظرة ففي الجاهلية فإن ابن صفوان لم يعارض ابن مخرمة في أفضلية حال اليمانيين سياسيا واجتماعيا حيث افتخر أن الملوك منهم والمقصود بالملوك أي وجود دول لها حكام في مدن معينة قد يتبعها قبائل من الطرفين لاعتبارات سياسية مختلفة وكل هؤلاء الملوك تقريبا كانوا يمانية بينما سواء المناذرة في الحيرة ( جنوب العراق) أو الغساسنة (جنوب الشام) أو في بلاد اليمن مثل التتابعة من حميرية أو ملوك سبأ أو الممالك التي تتابعت بعد ذلك مثل ملوك كندة وهمدان وملوك حضرموت بينما المضريين والعدنانيين لم تكن لهم أي دولة لعدم انقيادهم لبعض مع وجود محاولات أغلبها باءت بالفشل ولذلك سعى بعضهم لطلب أن يتم تعيين ولاة عليهم من ملوك اليمن ليكونوا حكام عليهم متوافق عليهم ويجمعوا شملهم مثل ما حدث في مملكة كندة على بعض قبائل معد بن عدنان وغيرها
ركّز ابن صفوان وهو متحدث محنٌّك على ما بعد الإسلام ليفخر به على خصمه وقد صدق فالإسلام نقل العرب نقلة عظيمة وأعزهم الله به عزا عظيما وهو التحول الجذري في تاريخ العرب
فأما قول ابن صفوان فنفخر عليهم بخير الأنام فكلامه مردود فإن خير الأنام عليه الصلاة والسلام أثنى على اليمانيين وفضّلهم على قومه ودعا لليمانيين ودعا على قومه! وذكر أن الإيمان يماني والحكمة يمانية وما ذلك إلا لأن رجال مضر هم أكثر من حسد الرسول صلى الله عليه وسلم وكفروا به وشتموه وحاصروا أهله في الشعب وقتلوا أصحابه ولاحقوهم حتى لبلاد الأحباش ورجموه بالحجارة في الطائف وغدروا بصحبه في القارة وفي بئر معونة وتحالفوا مع اليهود لإبادة أصحابه فهزم الله الأحزاب التي اجتمعت ضده بسيوف اليمانيين الذين نالوا عدد منهم شرف نصرته وهم الأوس والخزرج من الأزد وأما عموم اليمن فإن أعداء الإسلام منهم قليل وشوكتهم في حربه ضعيفة بل أهل الإيمان منهم أعظم وأكثر شوكة ولا تعجب إذا علمت أن الأشعريين وهم في أقصى اليمن أسلموا قبل قريش وأما مضر فإن أغلبهم أسلموا لله بسيوف اليمانيين فكيف يكونوا أفضل عند الله من الذين آمنوا به عن رضا وقناعة ولذلك نالوا شرف قوله صلى الله عليه وسلم :عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( *أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ*
بل إنه فضلهم صراحة عليه الصلاة والسلام بقوله :
*الإيمانُ يَمانٍ ، ألا إِنَّ القَسْوَةَ وغِلَظَ القُلوبِ في الفَدَّادِينَ ؛ عند أُصُولِ أذْنابِ الإِبِلِ ، حيث يَطلُعُ قَرْنا الشيطانِ ؛ في رَبِيعةَ ومُضَرَ*
بل حتى القبائل التي لم تسلم من اليمانيين كثير منهم كانوا أقرب للرسول صلى عليه وسلم من قبائل مضر فهذي قبل خزاعة أن تسلم اختارت أن تكون في حلف مع النبي صلى عليه وسلم ضد أبناء عمه قبيلة بني بكر الكنانة الذين كانوا في حلف مع قريش
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كانت ردة مضر وربيعة شديدة على المسلمين وفقد عدد كبير من الصحابة بينما من ارتد من أهل اليمن لم يكلفوا الصحابة كثيرا فقد قاتلهم الصحابة بالمسلمين من أقوامهم ومن العجب أن دولة مروان بن الحكم قام بيمانية الشام ودولة بنو العباس قامت بيمانية خراسان حيث أوصى الإمام إبراهيم العباسي أبو مسلم بأن ينزل في اليمن ويتألف ربيعة ويحذر مضر وفعلا قامت دولته بهم أول الأمر وقال له إن هذا الأمر يقوم بهم وكذلك نجد أن يمانية العراق والشام من المهالبة والقسريين هم من أوائل من بايع للعباسيين ولو نظرنا لدولة عبد الرحمن الداخل في الأندلس فسنجد أنها أيضا قامت بيمانية الأندلس في أول الأمر وقد دعا رسول صلى الله عليه وسلم بالبركة في بلادهم ولم ينل رجال على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم مثلهم بعد المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بينما نجد النبي صلى الله عليه وسلم دعا على مضر بعدما ضيقوا على أصحابه وعذبوهم فقال : ( اللَّهمَّ أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ وسلَمةَ بنَ هشامٍ وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ اللَّهمَّ اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ واجعَلْها عليهم سِنينَ كسِنِي يوسُفَ )
*فكيف لهؤلاء أن يفخروا بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهم وهم قد عذبوهم وآذوهم على من نصروهم وآووهم؟*
ومن العجب أن الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو من بني عبس من قيس بن عيلان من مضر حالف والده الأوس والخزرج في الجاهلية فلقبه قومه اليمان أي أنه انتسب لقبيلة يمانية وكان حذيفة من أخبر الصحابة بالفتن له حديث يذم بها عامة مضر بأنهم أهل فتنة
قال حذيفة : *ادنوا يا معاشر مضر ، فوالله لا تزالون بكل مؤمن تفتنوه وتقتلوه أو ليضربنكم الله وملائكته والمؤمنون حتى لا تمنعوا بطن تلعة*. قالوا : فلم قدمتنا ونحن كذلك ؟ قال : *إن منكم سيد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم – وإن منكم سوابق كسوابق الخيل .*
إذن اليمانيون في عامتهم أفضل من مضر لكن مضر منهم رسول الله صلى عليه وسلم وأفضل الصحابة وهم المقصود بهم سوابق الخيل والذين كثير منهم تضرووا من مضر
وأما افتخارهم بالبيت فإن الفخر به على المؤمنين مردود في كلام الله وقد أنزل الله قوله تعالى:
*{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ*وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } (35)*
أما من ناحية أن القرآن نزل بلسانهم مطلقا فلو سلمنا لذلك فقد قال الله عنهم: *{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30)* بينما نجد اليمانيين في المدينة حفظ عدد منهم سور القرآن قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم والحق أن القرآن وإن كان بلسان قريش إلا أنه نزلت آيات منه كثيرة بألسن اليمانيين على مختلف قبائلهم فهذي الكلمة بلسان همدان وتلك بلسان حمير والأخرى بلسان الأنصار وهذي بلسان كندة فكيف ينزل الله بألسنتهم إن لم يكن لهم لغة صحيحة كما ادّعى ابن صفوان
ومسألة أن مضر أفصح من اليمن في المجمل فلا نختلف عليه لكن لا يعني ذلك أن كل مضر أفصح من كل اليمن فهناك قبائل أفصح وقد غلب خطيب الأنصار خطيب بني تميم وهم هامة مضر وغلب شاعرهم شاعر بني تميم حينما نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فأنزل الله قوله :
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
فإن قال قائل أن تصنيف العرب العاربة والعرب والمستعربة المذكور هل هذا طعن بالرسول صلى الله عليه وسلم قلنا له أن *العربية مجرد لسان ليس لها قيمة في ذاتها وبلادهم كبقية بلدان البشرية ينتقل إليها أقوام وأفراد ويهاجر منها أقوام وأفراد *وقدوم إبراهيم عليه السلام خليل الله بابنه اسماعيل عليه السلام الذي تعلمها شرف لها وهو أول من نطق الفصحى المبينة فأصل العربية موجود بوجود اليمن بقبائلها القديمة لكن أفصح من نطقها اسماعيل عليه السلام وذريته من بعده وعظم شأن العرب والعربية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبكلام الله الذي هو تشريف لهم عن سائر الأمم*
عبد الإله بن سعيد بن عيلي