الأحد , مايو 19 2024

الصياد والحمام وفن القيادة

 

الصياد والحمام وفن القيادة

 

يقال أن صياداً نصب شبكة ونثر فيها حباً، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مرت حمامة من سادات الحمام ومعها حمام كثير فرأت الحب ولم ترى الشبكة فانقضَّت وانقضَّ الحمام معها، فوقعن في الشبكة جميعًا، وجعلت كل حمامة منهنَّ تضطرب على ناحيتها وتعالج الخلاص لنفسها، فقالت الحمامة القائدة : “لا تَخاذَلن في المُعالجة، ولا تَكُنْ نفسُ كل واحدة منكنَّ أهمَّ إليها من نفس صاحبتها، ولكن تعاونَّ فلعلنا نَقلع الشبكة فيُنجي بعضُنا بعضًا”،
ففعلن ذلك فانتزعن الشبكة حين تعاونَّ عليها، وطِرْنَ بها في عُلوِّ السماء
ورأى الصيادُ صنيعهنَّ فأتبعهنَّ يطلبهنَّ، ولم يَقطع رجاءه منهن وظنَّ أنهنَّ لا يطِرن إلَّا قريبًا حتى يقعنْ.

والتفتت القائدة فلما رأت الصياد يقفوهنَّ قالت للحمام :”ها هو ذا جاء يطلبكنَّ، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يَخْفَ عليه أمرنا، ولم يزل يُتبِعنا، وإن نحن أخذنا في الشجر والعُمران لم نلبث أن يَغبَى عليه أمرُنا، ولم يزَل يُتبِعنا حتى ييأس منَّا فينصرف، ومع ذلك إنَّ قريبًا من الطريق جُحْر جُرَذ، وهو صديقٌ لي، فلو انتهينا إليه لقطع عنَّا هذه الشبكة وخلَّصنا منها”.

ففعل الحمام ما أمرتهنَّ به القائدة، وخَفِين على الصياد فأيس منهنَّ وانصرف، فلمَّا انتهت القائدة إلى مكان الجرذ أمرت الحمام بالنزول فوقعن، ووجدت الجرذ قد أعدَّ مائة جُحر للمخاوف، فنادته فأجابها من الجحر وقال: “مَن أنت؟” فقالت له: “خليلتك الحمامة” فخرج إليها مُسرعًا، فلمَّا رآها في الشبكة قال لها: “يا أختي، ما أوقعك في هذه الورطة وأنتِ من الأكياس”؟ قالت له: “أما تَعلم أنه ليس من الخير والشر شيءٌ إلَّا وهو محتوم على من يُصيبه بأيَّامه وعِلَله ومُدَّته وكُنْهِ ما يُبتلَى به من قِلَّته وكَثرته؟ فالمقادير هي التي أوقَعَتني في هذه الورطة، ودلَّتني على الحَبِّ، وأخْفَت عليَّ الشبكة حتى لججتُ فيها وصُوَيحباتي، وليس أمري وقلة امتناعي من القدَر بعَجَب؛ لأنَّ المقادير لا يدفعها من هو أقوى مني، أما تعلم أنَّ بالقدر تُكسَف الشمس والقمر، وتُصاد السمكة في البحر الذي لا يسبح فيه أحد، ويُستَنزل الطير من الهواء إذا قُضيَ ذلك عليهم، والسبب الذي يُدرِك به العاجز حاجته هو الذي يحول بين الحازم وحاجته”.

ثم إنَّ الجُرَذ أخذ في تقريض العُقَد التي كانت فيها القائدة ، فقالت له: “ابدأ بتقريض عُقَد سائر الحمام قَبْلي وانصرِف إليَّ”؛ فأعادت ذلك عليه مرارًا — كلُّ ذلك لا يلتفت إلى قولها; فلمَّا ألحَّت عليه قال لها: “قد كرَّرتِ عليَّ هذه المقالة كأنَّك ليس لك في نفسك حاجة، ولا تَرَين لها عليكِ حقٍّا”، فقالت له القائدة : “لا تَلُمني على ما سألتك، فإني قد كُلِّفت لجماعتهنَّ بالرياسة، فحقُّ ذلك عليَّ عظيم، وقد أدَّين إليَّ حقِّي في الطاعة والنصيحة، بمعونتهنَّ وطاعتهنَّ، وبذلك نجَّانا لله من الصيَّاد، وإني تخوَّفت إن أنت بدأت بقطع عُقدتي أن تملَّ وتكِلَّ ويبقى بعضُ مَن معي، وعرَفت أنك إن بدأت بهن وكنتُ أنا الأخيرة لم تَرْضَ وإن أدرَكك الكَلال والفتور حتى تُخلِّصني مما أنا فيه”؛ فقال لها الجرَذ: “وهذا أيضًا مما يزيد أهل موَدَّتك فيك رغبة، وعليك حِرصًا”؛ وأخذ في قَرض الشبكة حتى فرغ منها، وانطلقت القائدة والحمام راجعات إلى أماكنهنَّ.

نجد في هذه القصة أهمية وجود القائد الذي يتميز بالحكمة والشجاعة والعلاقات بل رأينا كيف يكون القائد في إيثاره أتباعه على نفسه، وكذلك وفاء الصديق وحرصه على تخليص القائد أولا، وكلما كان القائد فيه إيثار وذكاء وحكمة كلما زادت رغبة الناس فيه وحرصا عليه ، هذه القصة ملهمة بحق كيف استطاع الحمام بتكاتفه وتوحد كلمته في نزع الشبكة والطيران بها ، وأهمية وجود علاقات خارج إطار المجتمع الذي أنت فيه فلولا علاقة قائدتهم بالجرذ لما استطاعوا الخلاص من الشبكة ، قد نتعرض لكثير من المحن والاختبارات لكن القضاء والقدر محتوم مهما بلغت كياستنا وفطنتنا وحذرنا ، كثير من الحكم والعظات في هذه القصة البليغة التي أنقلها لكم بتصرف من كتاب كليلة ودمنة .
القيادة شجاعة وإيثار وحكمة وعلاقات تصنع لصاحبها هيبة بين أتباعه.
رئيس الدولة قائد، الوزير قائد، المسئول قائد، شيخ القبيلة قائد.
ونأمل ممن في هذه المناصب أن يحاسبوا أنفسهم ونقول لهم إن لم تكونوا أهلا للقيادة فتنحوا …..

 

عادل سعيد بن طالب

عن عادل بن سعيد بن طالب

عادل بن سعيد بن طالب

شاهد أيضاً

ستظل لنا نبراسا يضيء الطريق لنا

    ستظل لنا نبراسا يضيء الطريق لنا   سيظل المناضل الحضرمي الجسور العميد ملهي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *